موقع المستقلين الاحوازيين
الأحواز الوطن و قابلية الرؤية :من لا مفكر فيه إلى واقع معيش

رحيم حميد 

المقدمة

 كثيرا ما يتم السؤال عن سبب عدم عشق الأحواز وطنا، أو النظر إليه بوضوح بوصفه وطنا حاضرا وماضيا ومستقبلا؟ لماذا يبدو الأحواز وطنا يعيش فيه المرء دون أن يشعر بانتماء له؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هنا تُلتمس من عدم وضوح الأحواز ذاته، والغموض الذي يكتنفه بوصفه وطنا. وذلك لأن الأحواز الوطن يفتقد، إثر ذلك، إلى قابلية الرؤية، لأنه غير واضح الحدود والنطاق: لا على المستوى الجغرافي ولا التاريخي بوصفه ماض محدد وحاضر مشهود، ولا على الصعيد الثقافي من فولكلور وأدب وإنجازات علمية تتمظهر في سلالة من العلماء والرجال الناشئين من الأحواز المنحدرين منه. وكل ذلك قد يتبين هنا في مفهوم قابلية الرؤية. يقول ميشيل فوكو إن صناعة المرئي هي عملية تتم داخل الخطاب، وبتوسط السلطة، لتعمد السلطة المهيمنة بخطابها إلى الأفراد والجماعات، فتفرض عليهم ما يجب أن يرونه، وما لا يجب عليهم رؤيته والشعور به. إن الأحواز، بوصفها وطنا وتاريخا وجغرافيا إلخ، غُيبت بكامل تمظهراتها، عن أنظار الأحوازيين أنفسهم، فبات الشعب الأحوازي لا يرى فيها وطنا. هو يشعر بالوطن، ويعيش ضمن نطاقه، ويتطفل على تاريخه، ويسمع من هنا وهناك عن مآثره، ويردد ما فيه من خصوصية لغوية وثقافية إلخ، بيد أنه يفعل ذلك بغير شعور منه، على شكل حدوسي، ما جعله منشطر الشعور والمعرفة والانتماء، بين ما يعيشه على شكل مموه من وطن هو يتنفسه، وبين خطاب مهيمن ضيع الوطن، ومَوَهَّهُ، وجعله ملتبس غير مرئي غير ظاهر.   

جغرافيا الوطن الأحوازي 

لقد آثر الخطاب الإيراني المهيمن مذ قَدِمَ على الأحواز محتلا ومسندا برؤية خطابية دونتها النخب الإيرانية عن دولة أمة أُنشئت على حساب الشعب الأحوازي المغلوب، إعادة تمظهر الأحواز الوطن بكامل جوانبه.

 فكان أول موضع تعرض لإعادة إنتاج الخطاب المهيمن هو النطاق الجغرافي أي نطاق الوطن وحدوده. فشُرذمت الجغرافيا الأحوازية، وتقطعت إلى أوصال متباعدة، على ثلاث محافظات أو أكثر، هي «خوزستان وإيلام وبوشهر» (وهرمزكان وفق بعض الروايات) فبات الشعب الأحوازي غير متصل جغرافيا وأرضيا، بفعل هذا الانقسام، وبات كل «مواطن» يتبع محافظة تمثله ويكنى بها: «خوزستاني» و«إيلامي» و«بوشهري». 


لم تكن هذه التقسيمات الجغرافية حجابا أمام التواصل على سبيل العملي والتواصلي فحسب، بل هي كانت حاجزا ذهنيا أكثر منه واقعي، حيث أصبح الذهاب إلى إيلام، يعني الذهاب من محافظة إلى محافظة، من حدود إلى حدود. هذه الحدود الجغرافية، رغم تقاربها جدا، إذ لا يفصل بين مدينة السوس في «خوزستان» ومدينة الدهلية («دهلران») في «إيلام» بضعة كيلومترات، كانت تمثل في الأذهان والعقول جبلا يفصل بينهما، وبات التواصل الطبيعي والامتداد الجغرافي حبيس ما طبعه الخطاب الإيراني من بعد مسافات بين هذه الحواضر العربية القريبة جغرافيا، البعيدة ذهنيا. وبالمثل بات التواصل الجغرافي الطبيعي على طول تاريخ الاحتلال، بين المدن الـ«خوزستانية» والمدن الـ«بوشهرية» على امتداد الساحل العربي شيئا لا مفكر فيه، لأن الخطاب الإيراني نجح في تصويرهما محافظتين بعيدتين، شأنهما شأن محافظة شيراز وأصفهان أو مشهد، لكل منها حيزها المتباعد، بُعد الأذهان لا بعد الجغرافيا

هكذا فقد الأحواز الوطن خارطته الجغرافية التي كان من المفترض أن تحمل بكل سهولها وجبالها وأنهارها، وكامل وجودها، رصيدا من الرمزية، لا بل رصيدا من الوضوح الذي يحدد نطاق الوطن، حتى ليشار إليه بالبنان، ويؤطر رؤية الشعب والأفراد حول الوطن، وتشبح إليه أنظارهم. هكذا فقد الوطن إذن نطاقه وحيزه الجغرافي، وفقد مع ذلك تماسك رؤية بادئ الرأي إلى وطنه، وما يعنيه ذلك من عشقه والنظر إليه، والسفر إلى تخومه ووديانه ومدنه، والاحتكاك مع القاطنين فيه، وعدهم من صنف واحد، من وحدة متكاملة تربط بينها جغرافية الوطن. إن الوظيفة الجغرافية هنا لا تختصر على التقسيم الجغرافي فحسب، بل هي تمنح أمرا ماديا رمزية به يتحدد الوطن، ويتجذر مفهومه. ولكن في ظل التشرذم المفروض على هذه الرقعة الجغرافية، فقد الأحواز/الوطن مقوما جوهريا من مقومات خروجه من مجرد أرض تضم أفرادا وجماعات، إلى وطن تفنى فيه النفوس في سبيل بقائه وسلامة أراضيه وازدهاره وحريته.      

عروبة الوطن الأحوازي

هكذا فقدت الجغرافيا اتصالها، وفقد مواطنوها اتصالهم بها ثم اتصالهم ببعضهم. وهكذا تعبدت الطرق أمام الخطوة التي أردفها خطاب الأمة الدولة الإيراني/الفارسي، لانتزاع هوية هذه الجغرافيا، ما دامت هي متشرذمة متقطعة الأوصال.فهنا لم يكن يعني الاقتطاع الجغرافي مجرد تقسيم إداري، بل هو تمهيد لمسخ هوية هذه الأرض التي اقتطعت وتشرذمت. لقد وجد العرب، الشعب الأحوازي، بفعل هذا النظام الجغرافي المفروض والمتشرذم، نفسه أقلية في كل من «بوشهر» «وإيلام» «وهرمزكان»، أمام أكثرية فارسية لرية، لا تعترف بوجوده بوصفه عربيا فحسب، وإنما نظرت له دخيلا على أرض أجداده التي تشرذمت. وهنا كان الدخول من الجغرافيا إلى العروبة، وهوية الوطن، دخولا معبدا منطقيا وعمليا. لقد وجدت القبائل العربية في «إيلام» نفسها أمام أكثرية ساحقة من اللر، الناطقين بلسان الدولة الأمة، وأمام زحف لا يقف من الفرس إلى الحواضر العربية، بغية استيطانها وإضفاء طابع الدولة الفارسي عليها؛ وبالمثل وجدت مدن «خوزستان» نفسها في الصالحية («أنديمشك») والقنيطرة («دزفول»)  والتميمية («بهبهان») وبركة إسليمان («مسجد سليمان») أمام زحف ومدد من السكان من الفرس، استوطنوها بسلطان الخطاب والدولة التي أقامها، استيطان المواطن لا استيطان الراحل، فتحولت هذه المدن إلى فارسية بالمطلق أو تكاد. لقد كان عدد الشعب الأحوازي قليلا، مقارنة بالفرس الزاحفين الغزاة من المدن الإيرانية بقوة، يعيش في أرض تسعه وتزيد على عدده، ليجد هكذا نفسه أمام مدد في النفوس لا يقف. وهكذا ضاعت الأرض الوطن الأحوازية بالقادمين إليها، وشهدت انشطارا بين المستوطنين الفرس وبين العرب المنكفئينومن هنا ومن هذا الاختلاط الجغرافي، أخذ النظام يستهدف العربية في جغرافيتها التاريخية الطبيعية، وأتى نكران العروبة وأرضها، عبر تغيير أسماء المدن العربية، وتغيير تركيبتها القومية؛ حتى لا يكاد يستطيع اليوم عربي أحوازي، غير مطلع على التاريخ، أن يتصور أن «دسبول» أرض عربية، أو «أنديمشك» هي الصالحية ذاتها العربية التاريخإلخ. أجل تغيرت الجغرافيا وغُيرت الأسماء، وطُرد العرب منها طردا جغرافيا ومعنويا بالآن ذاته، حتى اندثرت معالم العروبة في هذه الجغرافيا، وفقد الوطن حواضره ومعناه ومشهده.  إن وضع العرب في وطنهم موضع الأقلية، كانت هي الاستراتيجية الناجحة في الوطن الأحوازي، لفقدان هذا الوطن معناه وقابلية الرؤية فيه: أي وطن هذا المختصر على الحميدية والخفاجية والفلاحية، والدهلية وعسلوه والدير؟ إنه ليس بوطن، لأن في كل شبر منه، وفي كل مدينة، لن تجد إلا ذلك المستوطن الفارسي الذي يدعي ملكية الأرض وانتمائها له ودعوة معنوية في ماضيها وحاضرها. ليس الخطير في كل ذلك هو مدى صدق هذه الدعوة، أو إمكانية تغيير التركيبة السكانية بانتفاضات أو ثورات لاسترجاع ما انتهب، بل الخطير كل الخطورة فيه، هو أنه تحول، بوعي أو من دون وعي، إلى حاجز أمام الوطن وقابلية الرؤية فيه: لم يعد هذا وطنا، لم يعد هذا عربيا، لم تعد «خوزستان» عربية بكليتها واللر الفرس متربعين على نصفها، في مدنهم التي فرسوها في  القنيطرة «دزفول» والصالحية «أنديمشك» وعسلو «عسلويه» والدهلية «دهلران» إلخ، لأن الواقع المعيش المفروض يناقض ذلك، عمليا ومنطقيا، بمنطق السلطة، سلطة الخطاب الفارسي الذي اصطبغ الشعب العربي بصبغته.لقد حاول الاحتلال بنجاح في بناء معادلة مادية ومعنوية، بالآن ذاته، هي: حيث ما وجد فارسي فالأرض للفرس، ولو بأعداد قليلة. وهذه حجة تمكنت، بمحض تعامل الفرس بناء عليها، من ثقة الأحوازي بامتلاكه أرضه وموطنه، وجعلته يصدق حجتها ويرتب عليها أفعالا وتوابع. ومن أجل ذلك بالتحديد كان وجود عشرة جنود فرس، كفيل بقدرتهم على الحفاظ على رقعة جغرافية كبيرة، أو أراض زراعية شاسعة، نهبوها من العرب، ليس لجبن أو خوف في الشعب، بل لعقلية حقنت في عقول الشعب الأحوازي بأن الأحواز ليست موطنا لهم.   

تاريخ الوطن الأحوازي 

 كيف لمدن متشرذمة متباعدة، صغيرة النطاق والعدد، أن تدعي تاريخا، أو أن تدعي ملكيتها على أرض انتصفها مستوطنون فرس معهم، في أحسن الحالات، وجعلوهم أقلية على أرضهم وموطنهم؟ هذا هو فارغ الجغرافيا وفارغ التفريس المفروض بالخطاب الإيراني.  لقد وضع الشعب الأحوازي بوطنه المتشرذم بمستوطنين فرس جعلوه خليطا من القوميات، أمام خطوة كانت هي القاصمة: أمام نظام تعليمي فارسي اللغة، فارسي المواد والمعرفة. فجعل لغة التدريس فارسية غير عربية شيء، وجعل المواد الواجب تعلمها ضمن النظام التعليمي فارسية شيء آخر. ومن هنا الخطورة المزدوجة في النظام التعليمي على الأحواز كوطن، وقابلية رؤية هذا الوطن في اللغة والتاريخ وما يُتعلم. إن هذا الفصل بين اللغة المستخدمة في الأسرة وفي المحافل البعيدة عن تطاول السطة، وهي العربية الأحوازية، وبين النظام العام في الساحة العامة التي تهيمن عليها سلطة الاحتلال وخطابه، فصل أيضا بين إتقان العربية ذاتها، وجدواها ومدى اتصالها بالواقع المعيش، حتى ذهب هذا الأمر بفئات ملحوظة إلى التفريس وطرح الهوية العربية. ثم إن هذه اللغة المفروضة في نظام التعليم وكل ما يتصل بالدولة، دولة الاحتلال، فرض دراسة التاريخ الإيراني الفارسي، وأدبياته ومآثره ورجاله وماضيه وأساطيره، بعيدا عن التاريخ العربي الأحوازي، ومعالمه وآثاره ورجالاته وأساطيره وشعره وأدبه إلخ، لتقضي هذه الاستراتيجية القومية الفارسية على أي اتصال بين ماضي العرب الأحوازيين وحاضرهم.إن قابلية الرؤية لا تعني قط قابلية رؤية الأشياء المادية المتجسدة فحسب، بل هي تعني بالدرجة الأولى رؤية التاريخ بكامل حمولاته، ورؤية العربية بكل تجلياتها. ومن أجل ذلك كان يعني شطب التاريخ العربي من المواد الدراسية، بكل ما سطره الماضي الأحوازي على امتداد آلاف السنين، اقتلاع الوطن من جذوره، وتمويه، وإضفاء غموض عليه يجعله واقعا غير معيش غير مرئي لا يدخل نطاق المفكر فيه. إنه إذا ما كان الوطن فاقدا لماض، أي لتاريخ، فكيف يمكن رؤية واقعه، وكيف يمكن وضعه في سياق مفهومي دلالي يمنحه معنى، ويمنحه تجسيدا في الحياة اليومية على امتداد أمس الغريب. أجل هناك ماض موجود في التاريخ الأحوازي، من دون شك، غير أن هذا الماضي لم يكن ماض الأحواز بحد ذاتها وفي عروبتها وتشخصها، بل كان ماضيا مفروضا مصطنعا، هو الماضي الفارسي الذي أريد له أن يمثل الأحواز، ويروي لموطنيها ما يجب روايته لهم، والانتماء له: إنه الماضي الإيراني الفارسي.لقد تكفل النظام التعليمي الفارسي، بلغته الأحادية المفروضة، بمهمة صناعة تاريخ جديد للأحواز، والقضاء على كل معالم العروبة فيه، بدء من تغيير الأسماء العربية في الكتب الدراسية، وصولا إلى حقن الطلاب انتماء مفروضا لتاريخ مغاير وبديل هو التاريخ الفارسي. فعلى سبيل المثال عملت هذه المهمة، على تزوير تاريخ السوس وقدم حضارتها وما فيها من مآثر، ومصادرتها لصالح التاريخ الإيراني الإخميني، وتحول الخليج العربي إلى الخليج الفارسي على ضفاف أبوشهر وعسلوه، وتحولت زيغورات إلى معبد «إيلامي خوزي» هو من معالم الفرس، وهُدمت باقي المعالم العربية أو صودرت كلها لصالح الفرس أو لمحو ما يدل دلالة صريحة على حضارات عربية سامية تناقض الرواية التي يقدمها الخطاب الإيراني؛ ليتم القضاء على كل ما يمكن أن يجسد الوطن للأحوازيين، وكل ما يمكن أن يدل على جذورهم الممتدة على هذه الأرض وعلى هذا الوطن على طول القرون والحقب.    

ثقافة الوطن الأحوازي

إذا ما كانت الجغرافيا هي تجسيد الوطن المادي، فإن كل ما نمى على هذا الوطن، هو ثقافته ونتاجه الحضاري: بدء من اللهجة المحكية الأحوازية المتشعبة عن الفصحى العربية، مرورا بأشكال الشعر الشعبي والفصيح، وصولا بالنتاج العالم من إبن سكيت وابو نؤاس والفرزدق والوزير الأموي المورياني وسهل ابن هارون صاحب ديوان الرشيد إلخ. كل تلك المعالم والصروح المعنوية هي روح الثقافة الأحوازية، المتفرعة عن العربية، المنتمية لهاوكل تلكالمعالم والصروح تنكر لها الخطاب القومي في الدولة الأمة الإيرانية، ليمنع تحول الأحواز إلى وطن يعشقه الأحوازي وينتمي لهإن القضية حضارية بحق، وتجد أعتى صورها في الجانب الثقافي، حيث منعت العربية من أي تمظهر لها على أرض الأحواز، وحيث أقصيت جميع معالم الثقافة العربية إلى الهامش، إلى حيز الغموض غير المرئي، حتى عُوّم الشعب الأحوازي، وتحول بأفراده وجماعاته إلى كائنات عائمة تطفو على سطح الفارسية تارة، وسطح العربية تارة أخرى، لا هي بالعربية حق العروبة، ولا هي بالفارسية حق الفارسية. وهكذا صُعق الشعب بأزمة هوياتية ثقافية، لم تُخْصه في الإنتاج الثقافي إنتاجا يضارع إنتاج الماضين من أمثال أبي نؤاس والدورقي المعتزلي فحسب، بل جعلته كائنا من دون وطن، كائنا لا يدري من أين أتى، حتى بات الواحد منا الأحوازيين يصرح بقول مرير يقول فيه «لا أنا بالعربي الذي يعترف العرب بعروبتي، ولا بالفارسي الذي يعترف الفارسي بفارسيته»! إنه تصريح معيش وعامي يختصر عمق الأزمة الثقافية الناتجة عن اللاوطن.     لقد منعت قابلية الرؤية في الوطن الأحوازي، في جانبه الثقافي، أو التجلي الروحي للأمة الأحوازية، بدء من الزي الذي تقلص إلى حدوده الدنيا، حتى اختصر على جماعات ما قبل وطنية هي المجموعات العشائرية (التي حافظت على زيها التزاما بالتقليد وليس وطنية منها) ليصل إلى ازدراء العربية على يد الثقافة المهيمنة التي صورت العربي في مناهجها الدراسية التي تحقن في الأطفال تصويرا مليئا بالازدراء والانحطاط، ومنعها من التداول في الفضاء العام، وتجريمها على مستوى استخدام الأسماء العربية، تتويجا بإناطة الاقتصاد والعيش بنكران العربية بين أهلها وإثبات الولاء لفارسية نظام الحكم فيها (الملكي والإسلامي على حد سواء). حورب الفولكلور الأحوازي وقضي عليه قضاء مبرما، حيث كادت اللهجة الأحوازية أن تندثر، بعد تحولها إلى هجين قبيح من العربية الركيكة الغالب عليها العجمة سیظئ اللفظ والفارسية الركيكة، حتى خلق منها لهجة خليطة، طابعها العام هو القبح في اللفظ والمعنى، مما جعلها لهجة مقطوعة، أو تكاد، عن موروثها الشعبي شعرا وقصصا وحكايات ومرويات وأساطير وخرافة إلخ. كما تزعزعت المنظومة القيمية التقليدية، وبات المجتمع الأحوازي فاقدا لقيم يؤمن بها أو يصدقها إلى حدود جعلت الأخلاقي (الأمر الأخلاقي) متفسخا منحلا، حتى أثر ذلك بشكل سلبي على الترابط المجتمعي، وأعدم الثقة التي هي عرى المجتمع. وكل ذلك له الارتباط الأكبر بقضية الانتماء، حيث تحول الانتماء من واجب أخلاقي وقيمة حضارية، إلى قضية تثير السخرية في المجتمع الأحوازي الذي نزل إلى مستوى الغريزي، لا يطال سوى المأكول والمنكوح. وهنا بالتحديد تظهر نقطة في غاية الخطورة تفيد بأن عدم انتماء الشعب الأحوازي إلى وطنه وعدم عشقه للأحواز، لم يكن يعني قط، طيلة هذا القرن، انتماءه لإيران وطنا، بل إن الأكثرية الساحقة من الشعب ظلت تعيش حالة اللا وطن، لا هي إلى الأحواز موطنا تنتمي، ولا بالإيرانية تعتقد (ما عدا شرذمة من المستفرسين والمتمذهبين المنتمين صدقا لإيران، وهي قليلة لا تستحق الذكر). ومن أجل ذلك ظهر بقوة ذلك التفسخ المجتمعي في الأحواز، حيث جعلت حالة اللاانتماء معظم الأحوازيين من غير مثل عليا، ومن غير رابط أخلاقي ينتظم عقد السلوك المعياري المطلوب.     

 مستقبل الوطن الأحوازي 

وهكذا نجح المشروع الفارسي، بخطاب الأمة الدولة، أن يعدم المستقبل الأحوازي، بإنعدام الموطن الأحوازي ذاته، جغرافية وعروبة وتاريخا وثقافة ومستقبلا. لقد كانت استراتيجيات الاحتلال ونظام دولته، تستهدف المستقبل الأحوازي، عبر ذلك الخط الممتد بين الماضي والحاضر والمستقبل، حيث أصبح واضحا أن الاحتلال والهيمنة لا يمكنهما أن يستمرا إلا عبر قتل المستقبل والقضاء على أمل التحرير. ومن هنا يبدو أن تقطيع أوصال الوطن وتاريخه وعروبته وثقافته إنما قصد، بالدرجة الأولى، إعدام تصور مستقبلي يناقض الوضع الراهن، وتحجيم المستقبل في خيار واحد لا ثاني له، هو الانصهار التام في الفارسية، وطرح العربية إلى غير رجعة. ومن هذه النقطة بالتحديد استقبل الاحتلال الإيراني المستفرسين العرب استقبالا تاما، وتقبلهم في مجتمعه ودولته، وغض الطرف تماما عن جذورهم وانتمائهم القديم، وعاملهم معاملته للفارسي.ولكن كما جاء سابقا فإن الأكثرية الساحقة من الشعب الأحوازي، ظل غير منتم لإيران، ولم يدخل في نطاق هذه الدولة، دولة الاحتلال، بلا أخذ يدور في حلقة مفرغة من التفسخ الخلقي، والانتماء للعشيرة بدل الوطن، أو للدين بدل العروبة، دون أن يستقر في قرارة نفسه على انتماء نابع عن ذاته. ومن هذه النقطة بالتحديد ينشأ الخطاب المقاوم، وتتكون إمكانية كسر هيمنة الخطاب الذي منع الأحواز من التحول إلى وطن. وبناء على ذلك فإنه إذا ما أراد الشعب الأحوازي امتلاك وطن ينتمي له، ويتسق مع لغته وتاريخه وثقافته وحاضره ومستقبله، أن يعمد على الخطوات التالية: 

  •  تدوين تاريخ شفهي ومكتوب:  لموطنه، يكون تاريخا عربيا، يروي للأجيال الأحوازية المتعاقبة حكاية الوطن وسرديته وقصته، عربي الانتماء والأحداث والتأويل، يتصل بالجذور العربية، ويناهض بالآن ذاته، على سبيل التفنيد والتزييف، كل ما زوره الاحتلال الفارسي من تاريخ وروايات شوهت ماض الموطن هذا. على هذا التاريخ سلوك منهج بحثي صارم، يستند على المنهجية التاريخية الحديثة، يغور في الأرشيفات الوطنية البريطانية والأمريكية، ليمنح السردية الأحوازية وثاقتها التاريخية، وصدق عروبتها غير الملتبسة في بطون تلك الوثائق. 
  • الاعتناء بالفولكلور: بوصفه إرثا محليا وشهادة على عروبة هذه الأرض. وذلك لأن الإرث الحضاري الأحوازي يثبت صلة فريدة بينه وبين العروبة، سواء على مستوى اللفظ، أو على مستوى الميثولوجيا، أو على مستوى طرائق السلوك والوجود. ومن هنا يأتي تفرد الفولكلور الأحوازي مقارنة بباقي البلدان العربية، على مستوى اتصاله المعنوي الكبير والوثيق بالعربية العالمة الفصيحة. 
  • صناعة المثل العليا: من خلال استحضار وتوكيد الثورات والانتفاضات العربية ضد المحتل، وتكثيف التداول الإعلامي للأبطال القوميين الأحوازيين الذين واجهوا الاحتلال الفارسي وضحوا من أجل الوطن. وذلك لأن تاريخ الأمم يبتدئ من اللحظة التي ابتدت فيها مقاومتهم للمحتل.    
  • خوض كفاح جماهيري بكافة الوسائل: من أجل استعادة الكرامة القومية، ورد الاعتبار والثقة إلى الذات الأحوازية، وصناعة أمة على بقايا الاحتلال، عبر تضحيات جسام. 

 الختام

إن النظر إلى الحالة السائدة في الشعب الأحوازي، في وقته الراهن، تظهر بما لا مجال للشك فيه أن حدود الأحواز كوطن، غير واضحة المعالم لا معنويا ولا ماديا، مما جعل الانتماء لهذا الوطن وعشقه، ضحية عدم الوضوح هذا في حدود الوطن ونطاقه وحيزه المادي والمعنوي. وقد تبين أن هذا الغموض كان نتاج فرض الخطاب الأمة الدولة الإيراني على الأحوازيين حجابا بينهم وبين وطنهم، بسلطة حجبت عنهم قابلية الرؤية، وأعدمت تمظهر وطنهم؛ سواء عبر العبث بجغرافيته واقتطاعها وتشرذمها إلى محافظات عدة إيرانية، وضعت العرب في جميع هذه المحافظات موضع الأقلية، بفعل الاستيطان المستمر؛ أو عبر محاولة تحويل الأراضي العربية، وهي أجزاء من الموطن الأحوازي، إلى هوية فارسية، تنكر فيها انتماء الأرض الوطن إلى غير العرب. لقد دعم الاحتلال الإيراني محاولته في تفريس الوطن العربي الأحوازي، بروايته عن التاريخ، عبر نظامه التعليمي الأحادي اللغة الذي فرض مواد تختص بالفرس في التاريخ والأدب والشعر والعلم إلخ، بهدف القضاء على الثقافة العربية الأحوازية، بكل تمظهراتها الروحانية والمعنوية. ومن أجل ذلك فلا يمكن للأحواز أن تتحول إلى وطن، إلا إذا تمكن الشعب الأحوازي من كسر هذا الخطاب الفارسي، وبناء خطاب مقاوم له يجعل العربية الثقل في التوجهات والعمل. وكل ذلك يتطلب عملية جماهيرية شعبية، بكل القوى الحضارية الأحوازية لإعادة كتابة التاريخ، بل لإعادة صناعته من جديد، دون قيود ودون احتلال، تزامنا مع ثورة نخبوية جماهيرية عارمة تكسر قيود الاحتلال الفارسي وتردعه إلى حيث أتى وتحرر الوطن الأحوازي تحريرا تاما بكامل مدنه ونطاقه وتاريخه وعقلانيته وماضيه وحاضره ومستقبله.  رحيم حميد، كاتب وباحث في معهد الحوار للابحاث والدراسات

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.